نجحت الثورة في تفكيك الكثير من التعميمات المتعلّقة بالمدن , و غيّرت فيما يمكن أن نسمّيه “الوزن المعنوي” فيما بينهما , حيث وجدنا مدناً صغيرة أثّرت في مسيرة الثورة و دخلت المجال التداولي لها أكثر بمئات المرّات من المدن المركزيّة , و وجدنا أنّ الريف الذي كان يُتهم بالتخلّف و الرجعية و بالتالي بكونه حاضناً للاستبداد هو الذي نهض بمقارعة هذا الاستبداد و النضال لأجل الحكم المدني المقابل لسلطته العسكرية مهيّئاً لمخاض طويل قبل أن يصل هذا الحراك بشكلٍ فعّال إلى المدن .
كما نجحت في تفكيك الكثير من التعميمات عن الطوائف و فئاتٍ بعينها , فوجدنا أنّ كثيراً من الشواهد على اختلاف الموقف ما بين أبناء طائفةٍ واحدة يمكن أن يستشهد بها , لفهم الدوافع الأعمق للاصطفاف الطائفي الذي ليس لأحد أن ينكره .
كما نجحت في تفكيك الكثير من التعميمات و الانتماءات الفخورة حتى إلى العائلات على المستوى الأضيق , فكنّا نجد من العائلة ذاتها الثائر و الصامت و المخبر , هذا في أوّل الثورة قبل أن يصبح “الوضع الطبيع” لكلّ سوري أن يكون مع الثورة , فما بالك بالعائلات التي ارتبط اسمها بالشهداء .
لكنّها مع ذلك , لم تنجح في تفكيك الصورة التعميمية السطحية عن الإسلاميين و العلمانيين , في ذهن أصحاب الطرفين , فما زلنا نجد التعامل لدى الطرفين مع الآخر على أنّه مقابله الأقصى , الذي يجب أن يكون مختلفاً عنه و متبرّئاً منه و معارضاً له , , فنجد الكلام عن الإسلاميين و الحكم الإسلامي مثلاً يحيل دائماً إلى أفغان و القاعدة , و نجد أنّ التديّن الذي كان أحد سمات المظاهرات و العمل المسلّح ضدّ الثورة دوماً ما يُحاول نزع صفة المرجعيّة الإسلامية عنه و تأويله باعتباره فراراً “فرويديّاً” إلى السماء نتيجة القهر و اليأس من الأمل في الأرض , و نجد أنّ قضيّة لا تخلو من الغموض و السريّة حتى لدى المسلّحين على الأرض مثل “جبهة النصرة” تتُحمّل مدلولات سلبيّة كثيرة قبل أن يتبيّن صحّة تطابقها معها من عدمه , و يُدافع في الطرف الذي يزعجه كلام العلمانيين و يستفزّه هجومهم على إسلامية هذه الجماعة , يُدافع عن كونها “العقيدة الصحيحة” دون معرفة ما تفاصيل هذه العقيدة و فتاواها و هل هو متفق معها أم لا , و هذا الشكل من السجال هو ما يلقي قدراً معقولاً من الشكّ حول أنّ محور الهجوم و الدفاع ليس هو هذه العقيدة نفسها , مهما ادّعى الجميع غير ذلك .
هذا الاستقطاب اللاواعي يحاول سحب كلّ الاختلافات إلى الطرفين الأبعدين , و الذي يعيد تشكيل كلّ اختلاف إلى كونه ميزاناً من كفّتين يجب أن تكون في إحداها المقابل للأخرى , بينما الأفكار في الحقيقة أفلاك لا منتظمة على سطح كرة يمكن أن تتقاطع في نقاط و تتطابق في أخرى و يمكن ألّا تتلاقى و تكون متقاربة أو متباعدة .
الفكر الإسلامي متنوّع جدّاً, و الخلافات فيما بين مذاهبه و تيّاراته في العقد الأخير وحده كُتبت فيه مئات المجلّدات و أثيرت حوله عشرات المعارك , وما زال هذا الحوار و الصراع في الرؤى و الاجتهادات و بناء النماذج النظرية الجديدة فعّالاً حتى اللحظة و سيبقى , اختزاله إلى مجرّد شعار سطحي و مبسط تكتب ضدّه و تريد استئصاله , لا يجعلك بعيداً عن النجاح في تحقيق شيءٍ فعلاً و حسب، وإنّما سيجعلك كذلك تفشل مرّة أخرى في استخدام عقلك بالطريقة الصحيحة لأجل أن تحدّد انتماءك و جدلك هل هو مع أفكار تفهمها أوّلاً ثم تناقشها و تعارضها، أم مع قوميّة يجب العداء معها و استئصالها كلونٍ واحد !؟