كان من طريف ما أبدعت به الفلسفة الإسلامية المشرقيّة , متمثّلة بابن سينا و الفارابي ابتداءً , هي أنها حاولت “أسلمة” التقسيم اليوناني لمراتب الوجود , وذلك بأن تجعل الملائكة محلّ العقول العشرة .
لا شكّ بأنّنا نتلقّى نظريّة “العقول العشرة” الأصليّة نفسها الآن بشيء من الطرافة , لكنّها كانت تمثّل نسقاً اعتقاديّاً في تفسير الكون و تأسيس نظرية المعرفة وقتها , و جهد الفلاسفة المسلمين كان بحثاً عقليّاً مميّزاً كذلك , و إن كرّر الفلسفة اليونانيّة باستشكالاتها و استدلالاتها , و إن اعتبروا هذا النوع من الأسلمة السطحيّة نظريّة لها ثقلُها في نظرهم و مبرّرها .
إنّ هذا الشكل من الطرافة المعرفيّة , يحضر في كلّ عصر و إن بأشكال مختلفة , و هذا أصبح السائد في المجال الثقافي الإسلامي مع صدمة الحداثة في القرن التاسع عشر و حتى اليوم , و بخاصّة بما يتعلّق بمسألة الدولة , إذ وجدنا اجتهادات كثيرةً لإظهار السند الشرعيّ للدول القوميّة حين كانت القوميّة هي النظريّة السائدة , ثمّ لإظهار الاشتراكيّة في الإسلام , ثمّ لتبيين مقاصد الإسلام الاقتصادية التنمويّة , ثمّ لتأصيل مفاهيم الديمقراطية الليبراليّة في الفقه السياسي .
في كلّ تلك المراحل , نجد نوعاً من “أسلمة الدوالّ” لكن بالتسليم بالمدلولات كما هي -مع تعديلات شكلانيّة- و بالاحتكام إلى البنية المغايرة -الحداثيّة غالباً- كمرجعيّة للصدور عنها فيما يجب إعادة تأويله و تفسيره من الشريعة ليتسق معها .
ليست النجاة من ذلك بالانغلاق على الأطروحات القديمة و استعادتها كما هي , و الإصرار على الاختلاف مع الآخر و رفض كلّ ما يصدر عنه , و رفض قراءته و فهمه حتى .
فما يبدو هنا استقلالاً معرفيّاً هو وجهٌ آخر للتبعيّة المعرفيّة في الوجه الأوّل , لأنّه يصدر عن الآخر أيضاً في قراءة ذاته , و في التعامل مع واقعه , و إن بمناقضته على طول الخطّ .
ما الحلّ ؟!
أن نفهم كما يليق بالنصّ و بالواقع من بحثٍ طويل و عميق , بمعزلٍ عن كرسيّ المتّهَم المضطر للدفاع عن نفسه , و بتجرّد عن المناورات التي يوجبها موقعنا في المعركة .