وراء كلّ لغة مسكوت عنه , سلطة خطاب حاكمة وناظمة للأسلوب و المفردات و الإحالات , أي أنّ ما يظهر كإبداع أدبي يخفي وراءه تأثيراً و صراعاً بين سلطات اجتماعية سياسية و اقتصادية , ليس ثمة خطاب دون سلطة يخفيها كما يقول رولان بارت.
كان ابن الرومي (ت 283هـ) على وعي دقيق بهذا الأمر , وهو الشاعر الذي بدأ حياته مترفاً ثمّ وجد نفسه في فقر لا ينجيه منه سوى الشعر , متقرّباً – وهو المزيج بين آبائه اليونان و اخواله الفرس و الواقع العربي – إلى السلطة , لا بالمدح وحده , بل بالهجاء أكثر , هجاء الزمان و غيره من الشعراء و الولاة أيضاً على أنّهم لم يقرّبوه من النعيم كما يستحقّ , على أنّه بنسبه البعيد عن الصحراء بين أثينا و فارس و بغداد , كان شعره رقيقاً حجّة لدى أهل البلاغة باللطف و الإبداع في الكنايات و التشبيه التي يظهر عليها أثر المدن حتى لو حاول التشبّه بجزالة العرب كما لا يمكن للشاعر إلّا أن يفعل , و هذه الحياة الحافلة انتهتْ بالموت مسموماً , دسّ إليه السمّ وزير كان يخاف أن يهجوه فلا يُتذكّر منه حين يمضي من الدنيا سوى ذمّه.
الحروف تبقى , و الكلمات مضارعة للخلود , هذا أدركه حتى سادة الجاهلية ما قبل المدن الكبرى , ويحرص رواة الأدب في تأكيدهم على إعجاب عمر بن الخطاب بزهير بن أبي سلمى الذي كان يمدح هرم بن سنان , على أن يجمعوا عمر بن الخطاب مرّة بابنة هرم بن سنان و يقول لها إن زهيراً أعطاهم ما لا يبلى بينما أعطوه ما يفنى , و مرّة بأبناء زهير و يسألهم عن الأثواب التي منحها هرم بن سنان لأبيهم فيخبروه أنها بليت فيردّ عليهم إنّ ما منحه أبوهم لهرم لا يبلى , لا بدّ للطرفين في معادلة اللغة أن يسمعوا بقاء الكلمات , و مضارعتها للبقاء و الاستعلاء على الزمن مقابل الفناء الذي يأكل الدنيا و الإنسان.
هذا ما لا أتوقّع أنّه كان يغيب عن ابن المعتزّ (ت 296هـ) , ابن الخليفة المعتز ابن الخليفة المتوكل ابن الخليفة الرشيد ابن الخليفة المهدي ابن الخليفة المنصور , , خليفة اليوم الواحد الذي انتهى به مقتولاً , يوم واحد من الملك يكفي لإنهاء حياة كاملة من الشعر والبحث عن جمال اللغة, هذا الشاعر الذي بلغ أقصى ما في رفاه اللغة من الممكن , والذي عرفته كتب البلاغ بتفنّنه في أساليب البديع و بتفوقه في التشبيه خاصة, فلم يكن إبداعه اللغوي حاضراً في الرقّة و العذوبة بمعزل عن روح التحضّر الملكيّة فيها.
في حكاية ذات دلالة , سئل ابن الرومي لماذا لا يكون شعره بسوية شعر ابن المعتز و إبداعه في التشبيه , فسأل ابن الرومي مستنكراً : و أين كان ذلك ؟ , فقال له السائل : ألم تر إلى تشبيهه للهلال حين قال :
انظرْ إليه كزورق من فضّة قد أثقلتْه حمولةٌ من عنبر
فصاح ابن الرومي , و هنا مكمن القصيد من كلّ ما ذكر : واغوثاه , هذا يصف آنية بيته !