فخ خطاب الآخر

موقف جرير من بشار بن برد، والمتنبي من ابن الحجاج وكلاهما رفض أن يرد على الذي هجاه أملاً أن يشتهر برده عليه، طبعاً على الفارق الكبير ما بين ابن برد وابن الحجاج، هو موقف من اللغة والخطاب قبل أن يكون شخصياً، وجدير أن يكون ملهماً للجماعات السياسية والتيارات الفكرية، لأنه رفض للعلاقة اللغوية مع الآخر، وللدخول معه في دائرته الخطابية التي يفرضها.

إن أي حوار بين طرفين يستلزم مستوى مشتركاً من الخطاب، والطرفُ الذي يفرض إشكالاته على الآخر ليردّ عليها، هو يفرض عليه في الآن نفسه خطابه ولغته، فمن يردّ عليه يدور في حلقته غالباً، حتى لو رفضها ضمن منطق الخصم ولغته فرفضه تحصين لما ينتقده وإقرار بأولوياته.

ولكن ما جرى في الفضاء العام في الثورة السورية يتجاوز إشكالات الخطاب أو مصطلحاته إلى ما هو أخطر، حيث تمّ إغراقنا بالاحتقان الخطابي من المزايدات والشيطنات لدى أنصار الجهاديين والذي يتدفق بغزارة جنونية لا تتوقف على الفضاء العام الافتراضي منه والواقعي، وكان الرد عليهم غالباً بخطابنا وأولوياتنا نحن، ولكن بمستوى خطابهم المحتقن والمتوتر هم، هذا باستثناء فئة ليست يسيرة ممن رضخت لهذه المزايدات وسلّمت لهم بموقع القاضي وانشغلت بالدفاع عن نفسها وإثبات إسلامها حسب تهم الخصوم وأولوياتهم (مشروع أمة نموذجاً).

لقد دخلْنا في اللعبة مضطرين لضرورة حيناً وغير منتبهين حيناً آخر، حين رأينا تأثير هذه المزايدات في العموم فرددنا عليها بأدوات العموم التي استخدموها، ولكن في حفلة التوتر العام هذا غابت عنا (وأتحدث عن نفسي بداية) مهمتنا الأولى كمثقفين في بناء الوعي، وبلورة الخطاب الثوري ومبادئه بهدوء كمشروع مستقلّ عن خصومه وتهمهم.

إن مراقبة الذات وتفسيرها من وراء مسافة، ضرورة على المستوى الشخصي والثوري العام، ولا بدّ من أن نعيد تقويم ما قلناه وفعلناه خلال خمس سنوات سابقة، لئلا نقبل على القادم بهشاشة اللامبالاة واللامفهوم نفسها.

أضف تعليق