فحيحٌ في القدر، هدوء حذر في الهواء، أرضٌ تهيأت للخصب، وصراخٌ أُهمل أعواماً يتجهّز في الحلق، والتاريخ يوشك أن يبدأ دورته الكبرى… وها هم الشباب -بالنزق الذي لم يتبدّل- في طريق العمري، وبدأت الثورة بمثل هذا اليوم الذي لم يكن مثله شيء..
قبل ست سنوات لم تخطئ درعا، كانت البوصلة واضحةً نحو العمري، نحو الحرية العظيمة والهبوب الكبير، ونحو الانعتاق من ربقة الظلم إلى ما لا يليق بالظالم سواه: غضب المقهورين.. وانتقام الأحرار إذ عرفوا الطريق.
ولم نخطئ، كان على هذه الصيحة أن تكون، وعلى البركان أن ينفجر كما يليق بغضب الرجال، وكان على عميم الشعب أن يسمع صوته لأول مرة، وأن يتنفس الهواء لأول مرة، وأن يعرف الحرية التي ذاقها من يد الرحمن وقت ذرّ الخلق ثم اغتصبها السفلة، وكان على جبل القيح أن ينزاح عن الكتف الناهض ولو انساح الصديد على الأرضين.
قبل ست سنوات لم يخطئ السوريون، فعلوا الصواب العظيم، الصواب الوحيد بعد أزمنة الخطأ، وتذكّرْ يا أخي، تذكر تلك الجموع تحت السماء، يا للبهاء المقدس، يا للجمال العظيم، ويا للقيام الأجلّ، كل جسد مشدود نحو الحلم كأنه الكثيرون، وكثيرون بروح واحدة كأنهم الجسد، ووحيدين بدؤوا.. وحيدين انتهوا، جموعاً تهتف في الشمس، وأطيافاً ترسم غدها في الليل، وعصابات تنغمس في بنيان الظلم، ومرابطين توزّعوا على حدود الدمار، وأفراداً مثبّتين في الخنادق كالجذور… أو جسداً يثوي بالسكينة الرحيمة في القبر.
ولم نخطئ، وفي اليوم الأول للقيامة هتفنا لهم: “كذّابين كذّابين”.. كنا أصدق مما أردنا، وفي العتمة المكتظة بالقلب والكهوف الخربة، كنتَ تقضّ المتكئين على العروش البعيدة، فزّوا مرتعدين حين وقفت، صاحوا مشدوهين حين هتفت، وجُنّوا حين علّقت بزنديك السلاح، وكرهوك… كم كرهوك ولو لم تسمّ منهم أحداً، ما ألذّ كراهية الطغاة يا ابن أمي..
واستبقوا مجتمعين يعاقبونك على الحلم الخطيئة: حريتك الفادحة، وها أنت… متهمٌ بجواز السفر في مطارات الآخرين، مرميّ في الخيام تحت قصور الناس، مقذوفٌ في لجّ البحر بين البوارج، والأسلاكُ الشائكة على الحدود قصّوها كي يوقفك الرصاص، كم كنا وحدنا يا أخي.
قبل ست سنوات لم يخطئ صوت الكرامة، وإن أخطأنا في عثرات المسير وانعطافات المصائر، وكم كنا وحدنا يا أخي… وحدنا يا ابن أمي، وحشيين نبدو في المدن الأنيقة التي لم تتغير عن إيقاع العادي، أليفين قرب خرائبنا ومذابحنا وقبور الشهداء، في زمننا ومكاننا كنا نرسم أحلاماً وبلاداً وقوارب، وانهال علينا الأعداء والأصدقاء الكذبة، وتحت الردم والنيران، تحت الموت والنسيان، وبلا أمل أو وعدٍ أو نصر، كنا قريبين وسعداء وأجمل.
إنهم لن يفهمونا يا أخي، كان ذلك الهواء –وإن تلوث- هواءنا، وذلك الطريق –وإن تثقّب- طريقنا نحن، والمدينة بدمارها العميم بيتنا الكبير، قبل ست سنوات يا ابن أمي ذقنا طعم الحرية العظيم وتغير كل ذلك، فتعال إلي.. أحضنك بهذا التراب ورائحة البارود ومن رحلوا، لم تنته الرحلة.
18 آذار 2011م – 18 آذار 2017م
ثورة مستمرة وطغاة زائلون.. ولن نترك الطريق