مدون شاب عن السفر والرحلات اسمه قاسم الحتو نشر فيديو زيارته إلى “سوريا ما بعد الحرب” حسب وصفه، مؤكداً أن الزيارة بعيدة عن السياسة ولأجل السماع من الناس والاطلاع على الأوضاع على الأرض ولقاء أصدقاء الطفولة.
الفيديو المليء بأعلام النظام وصور بشار الأسد، يؤكد أن سوريا بأمان، وأن زيارتها لا تكلف شيئاً سوى عشرة دنانير (14 دولار)، وأن المطاعم الشامية هي الأفضل، ويرجو لها النهوض من جديد أقوى بعدما انتهت الحرب.
الدمار يمر سريعاً، سببته الحرب أيضاً، السوريون المغتربون أيضاً يتم ذكرهم، فهم بعيدون بسبب الحرب، رغم أن الحرب انتهت.
الزيارة غير المسيسة عن سوريا ما بعد الحرب تزامنت للصدفة مع استمرار المجازر البشعة في إدلب الواقعة تحت القصف، أحد الضحايا كان امرأة احترقت حتى التفحم، ضحايا آخرون كانوا أطفالاً في الأشهر الأولى، ولكن هذه ليست حرباً أو ليست سوريا.
المفارقة أن هذا يتم تحت شعار “الحياد”، وهم الحياد الذي يتم ادعاؤه في التطبيع مع نظام الأسد في سوريا، والترويج لروايته عن نهاية الحرب، والترويج الأخطر لشعار “الحرب” الصامت الذي لا يشير لأي طرف، ويصمت عن مرتكب أكبر مأساة إنسانية وإبادة جماعية في العصر الحديث، ثم الترويج لزيارته ورفع العزل عنه.
إنه وهم، لأنه ليس حياداً، هو غارق في السياسة سواء علم ذلك أم لا، وهو ترويج فجّ للنظام وأعلامه وروايته وإعفائه من المسؤولية ومساواته بضحاياه وتزييف الواقع عبر التعمية على الحرب والمذبحة المستمرة حتى الآن واستنساخها بصور الحياة المرحة والمطاعم، وهو مفيد له أكثر من ترويج أنصاره وشبيحته، لأنه يأتي من سائح محايد يمتلك جمهوراً من الشباب.
السخرية الأكبر أن المدون نفسه كان قد نشر فيديو تضامن مع “الفيلة” التي يتم تقييدها من الصغر لأجل أن يتصور معها السياح وينشروا فيديوهات، بلاد اسمها سوريا، فيها شعب كامل مقيد وذبيح ومهجر يتصور معها السياح الضاحكون الذين يرون السوريين لا يستحقون حتى تضامن الفيلة.
السياحة والسفر تريند في عالم السوشال ميديا الأنيق، كنماذج للنجاح والحياة الجميلة بعيداً عن السياسة، ليس هذا سيئاً بالضرورة، ولكن كما أن فصل الرياضة عن استثماراتها السياسية وهم، فإن فصل السياسة عن السياحة لبلاد متوغلة في حروب ومذابح مستمرة هو وهم أكبر وأكثر إيذاءً.
لماذا نرفض فكرة التطبيع مع إسرائيل وزيارتها من قبل العرب ؟
أليست هذه أرض فلسطين -ما بعد الحرب- ويجب أن نسمع كلام الفلسطينيين هناك ونرى الواقع على الأرض؟
لأنها ببساطة زيارة لسلطة احتلال وترويج لنمط حياة تحب هذه السلطة ترويجه عن نفسها.
ربما الأمر صعب الفهم على من يحبون إقناع أنفسهم بنهاية الحرب وأوهام الحياد ويتضامنون مع الفيلة فقط، ولكن كذلك الأمر بالنسبة للسوريين.
أن تروّج بكل فرح ومحبة عن نموذج السلطة التي تحتلهم وتذبحهم وتجتث حياتهم وبيوتهم وأرواحهم، وترفع أعلامها وتروج للحياة والمطاعم تحت راياتها ضاحكاً بين الناس، فهذه سخرية في غاية الفجاجة من الشعوب والضحايا، وهي مؤذية أكثر حين تكون ممن نعتبرهم امتداداً لجيل الربيع، أو ما هو أقسى.. من جيران وأصدقاء.
ولكن ما هو أخطر هو ما تمثله هذه الظواهر وانتشارها في السوشال ميديا، كمظهر لانهيار روابط التضامن التي صعدت مع الربيع العربي، وتراجع الشعور بأهمية الاحتكام لشعارات أخلاقية لصالح شعارات الحياد وتناسي السياسة، هذا التراجع الذي يأتي في سياق ضمور قيمي يجتاح العالم مع صعود التطرف والشعبوية وتكريس الثورات المضادة.
ثمة فارق بين اللامبالاة السياسية (والحياد الصامت) والتي أصبحت ظاهرة منتشرة حتى بين النشطاء، وما بين ترويج الحياد في قضايا الصراع، لأن الأخير موقف سياسي يصب في صالح الأقوى دائماً، وثمة فارق بين خيارات شخصية في حياة خاصة، وما بين مواقف معلنة في التدوين الذي هو دخول طوعي في المجال العام.
المخبر الغبي أسوأ لأنه يؤدي دوره كاملاً دون أن يعرفه